
أصبح الاعتراف بفشل اتفاق استوكهولم حول الحديدة ضرورة ملحة تقتضيها مهمة المبعوث الأممي ودوره في المأساة اليمنية المتزايدة إذا أراد هو لنفسه أو أرادت منه الأمم المتحدة الاستمرار في محاولات إنقاذ الشعب اليمني من دوامة هذه المأساة.
وحين يكابر المبعوث الأممي رافضاً الإعتراف بهذا الفشل حتى بعد انقضاء المدة الزمنية المحددة لتنفيذه فإنه يعمل بكل قوته على إفقاد اليمنيين ثقتهم بمهمته وبالأمم المتحدة معاً، ويضع المأساة اليمنية على بوابة مواجهات جديدة وبعيدة جداً عن وساطة الأمم المتحدة، وعن استمرار دورها في الإشراف على هذه المأساة الإنسانية غير المسبوقة.
وقد يكون ميسوراً للأمم المتحدة أن تخرج من دوامة فشل استوكهولم بتعيين مبعوث جديد لها في اليمن، ولكن هذا في حال وقوعه، سيكون معالجة متأخرة لفشل غريفيث ولن يقدم جديداً عجز عن مقاربته بنجاح ثلاثة من مبعوثيها خلال سبع سنوات.
لذلك فإن الأولوية الآن هي للخروج من فشل اتفاق ستوكهولم خروجاً موضوعياً، يعيد تصحيح المسار الذي بدأه مارتن غريفيت باختلال الرؤية ووصل به إلى فشل النتائج واختلال المسار وذلك من اجل الإبقاء على دور للأمم المتحدة في المأساة اليمنية وإعادة بناء جسور الثقة بينها وأطراف الأزمة والحرب داخلياً وخارجياً.
ومن إجل ذلك لا بد أن نتوقف عند مقدمات الفشل التي وصلت بالمبعوث الأممي وطرفي الحرب إلى استوكهولم وحكمت عليهما بالخروج من هناك بالفشل أيضاً وذلك لكي نتمكن من رسم إطار عملي للخروج من دوامة فشل استوكهولم.
أخطاء الوساطة الأممية:
انطلق مارتن غريفيت فور تعيينه مبعوثاً أممياً جديداً إلى اليمن من تصورات خاطئة لتعقيدات المأساة اليمنية وكذا لدور الأمم المتحدة في هذه المأساة، خاصة تفسيره لفشل من سبقه من المبعوثين الأمميين إلى اليمن.
تصور غريفيت أن أهم أسباب فشل من سبقه إلى اليمن، وخاصة سلفه اسماعيل ولد الشيخ، هو مقاربة الأزمة اليمنية بحل شامل، وبناء على هذا التصور اتخذ غريفيت، استراتيجية مغايرة تقوم على تجزئة الأزمة إلى ملفات يسهل التعامل معها ويمكن البناء عليها إذا نجحت لصياغة تصورات للحل الشامل.
قدمت المواحهات الدامية بالحديدة ونذر المأساة الإنسانية إغراءً لغريفيت بالتوجه نحو نجاح محتمل لتصوره القائم على تجزئة الملفات اليمنية، ومع أن هذا الاغراء الذي كان ملتهباً في يونيو 2018م، قاده إلى الفشل في جنيف الثالثة بسبتمبر 2018م، إلا أنه أصر على السير في ذات الطريق الذي رسمته تصوراته الخاطئة إلى استوكهولم في ديسمبر من نفس العام.
اكتشف غريفييت مؤخراً شدة تأثير التجاذبات الاقليمية على المأساة اليمنية، حسب مقابلته مؤخراً مع صحيفة الشرق الأوسط، ومع أنه كان على علم بهذه التأثيرات التي استخدمها هو نفسه للضغط على الحكومة الشرعية للذهاب إلى استوكهولم والقبول بمقترحاته حول الحديدة، إلا أنه تجاهل تأثير إيران في الأزمة اليمنية.
ربما يكون الطمع في نجاح سريع هو ما دفع غريفيث إلى صياغة اتفاق موبوء بالفشل في استوكهولم، ومع ذلك فإن أخطاء التنفيذ ضاعفت من حجم الفشل الذي مني به الإتفاق خصوصاً بعد قبول غريفيت بطلب الحوثيين إقالة الجنرال مايكل كامبرت واستبداله بلوليسفارد.
أخطاء طرفي الحرب:
يمكن تلخيص أخطاء الحكومة الشرعية بما تصورته وراهنت عليه بالحضور إلى استوكهولم والقبول بمقترحات المبعوث الأممي حيث قبلت هذه الحكومة بضغوط تحالف دعم الشرعية والذهاب إلى استوكهولم، ثم راهنت على تعنت الحوثيين في إفشال اتفاق الحديدة للقبول به.
قد يكون ما راهنت عليه الحكومة اليمنية الشرعية صحيحاً، ولكن هذا الرهان تغيب عنه الرؤية السياسية للبدائل التي يمكن أن تشكل ضغطاً على التمرد الحوثي في سبيل استعادة الشرعية السياسية وبناء مؤسسات الدولة التي تجسد هذه الشرعية على الأرض وبين الناس.
وتكمن أخطاء الحوثي في تصور الجماعة لقدرتهم على التلاعب بآليات التنفيذ وعلى استغلال الوقت المتاح لهم بالتهدئة لتغيير قواعد اللعبة في ميادين المواجهات لذلك قبلوا بالاتفاق وفق أهدافهم الخاصة.
غير أن القوة التي تعتمد عليها جماعة الحوثي في تعطيل تنفيذ اتفاق السويد تكمن في تصورها لغياب العواقب المترتبة على هذا التعطيل خصوصاً ما يتعلق بغموض المسئولية عن هذا الفشل والذي يحرص المبعوث الأممي على زيادته انطلاقاً من إيمانه بأنه ليس حكماً بين ولا على أطراف الصراع.
وهكذا تكاملت هذه الأخطاء وغيرها لتصنع من استوكهولم بوابة للفشل ودوامة لاستمراره بما يضع الجميع أمام تحديات الاعتراف بهذا الفشل والبحث عن مخارج متاحة من تداعياته السلبية على كل الأصعدة ومختلف المسئطات.
مخاطر البقاء في دوامة استوكهولم:
يعلم مارتن غريفيت يقيناً أنه لم يعد بمقدوره إجبار الحوثيين على الإنسحاب من الحديدة، والإلتزام بتنفيذ ما تبقى من بنود استوكهولم، ويعلم يقيناً أيضاً أنه ليس بمقدوره الحصول من الحوثيين على أي شيء يمكنه من الإدعاء بأن نجاحاً ما قد تحقق للإتفاق وبالإتفاق.
وعلى كل، فإن أبرز مخاطر البقاء في دوامة استوكهولم تكمن في فقدان الأمم المتحدة لدورها في المأساة اليمنية خاصة بعد فشل دورها في انجاح المرحلة الانتقالية عبر مبعوثها الأول إلى اليمن جمال بن عمر، وفشلها في إيقاف الحرب وإيجاد تسوية سياسية للمأساة اليمنية عبر المبعوث الثاني للأمم المتحدة اسماعيل ولد الشيخ.
وأخطر المخاطر المترتبة على البقاء في دوامة فشل اتفاق استوكهولم، ما يترتب على ذلك من تنامي الاعتراف الشعبي بقوة الحوثيين وقدرتهم على التلاعب في بقية الأطراف المتورطة بالأزمة اليمنية، وخاصة الأمم المتحدة، خصوصاً بعد التصعيد العسكري ضد السعودية.
وتؤثر التجاذبات الإقليمية في مسارات فشل استوكهولم، من خلال بقاء الحوثي في الحديدة واستغلال تواجده العسكري في سواحلها وموانئها، لتهديد الممرات المائية والدول المجاورة خدمة لإيران.
والأسوأ من كل هذا أن تتفاقم مآسي أهالي الحديدة الذين شردوا منها والذي بقوا فيها دون أن يقدم لهم اتفاق استوكهولم أي بصيص أمل في الخروج من ويلات الحرب واستعادة مجريات حياتهم اليومية بأمن وسلام، وهنا فقط يفقد اتفاق استوكهولم كل مبررات بقائه، فهل يدرك هذا غريفيت!؟
المخارج الممكنة من فشل استوكهولم:
إذا كان بإمكان المبعوث الأممي تحديد موعد نهائي لتنفيذ اتفاق الحديدة بشكل كامل ودون تجزئة، فإن عليه المبادرة إلى ذلك بسرعة ووضع معايير لا تحتمل الخلاف ولا تقبل استغلالها من أي طرف لصالحه أو التضليل والمغالطة فيها.
وحين نرجح عدم امكانه ذلك، فإن مخاوفه من المبادرة إلى الاعتراف بالفشل ستضاعف من مخاطر البقاء في دوامة الفشل وتزيد من عجزه في المستقبل عن الامساك بملفات الأزمة اليمنية، والتأثير سلباً على دور الأمم المتحدة في هذه الأزمة.
وعليه، لا بد من البحث في صيغة آمنة للاعتراف بفشل اتفاق الحديدة، والمسارعة إلى ذلك بصورة تجعل المبعوث الأممي قادراً على الدخول في جولة جديدة من المساعي الباحثة عن حل سياسي للأزمة اليمنية وفي نفس الوقت قادراً على تجديد ثقة اليمنيين بفعالية الدور الأممي في هذه الأزمة.
ولا بد أن يكون واضحاً لأطراف الحرب أن تنصلهم عن أي اتفاق مستقبلي سيترتب عليه مسئوليات وتكلفة يتحملها الطرف المعطل لتنفيذ الاتفاق، وأن الوساطة الأممية تضمن التنفيذ ولا تقف عند المسافة الواحدة من كل الأطراف وإنما تحكم على التزامات كل طرف.
يمكن البدء من الأوضاع الإنسانية المأساوية، وتقديم حلول لبعض ملفاتها دون الحاجة إلى التفاوض حولها، مثل فتح مطار صنعاء، وتسليم مرتبات الموظفين وهذه كانت أول الوعود التي أطلقها مارتن غريفيت عند توليه مهمة المبعوث الأممي إلى اليمن.
ولا بد من الدعوة إلى بدء مشاورات جديدة يمكن أن تستفيد من كل تجارب الوساطة الأممية في الأزمة اليمنية بما في ذلك اتفاق الحديدة، وما تضمنه من أخطاء وفشل، على ان يدرك المبعوث الأممي أن بقية مفردات اتفاق ستوكهولم قابلة للإستمرار مثل ملف الأسرى والمختطفين.
وأيا كانت المخاوف التي تمنع مارتن غريفيت من إعلان فشل استوكهولم، فإن المعطيات المتحصلة من تعنت الحوثيين في الفترة الماضية وحتى الآن تشير إلى استحالة التقدم من اتفاق الحديدة وفيه، وعليه لا بد من انطلاقة جديدة تتجاوز فشل هذا الاتفاق وتقدم بدائل يمكن البناء عليها في المستقبل القريب.
من المؤكد أن كل قرار وكل خطوة باتجاه اتخاذ القرار تتطلب دراسة تتجنب مخاطر التحول وتقدم بدائل قادرة على اقناع الأطراف المعنية بالأزمة اليمنية بضرورة التحول من دوامة الفشل الذي أرادته الأطراف جميعاً في استوكهولم.
وعلى المبعوث الأممي أن يدرك جيداً أن الحديدة واحدة من مفردات الأزمة اليمنية الشاملة ومفردة من مأساة كاملة ومتزايدة، وأن الغرق في الحديدة لن يصنع سوى مزيد من التعقيدات التي يتجرع ويلاتها شعب اليمن، وعليه أن يسارع بالخروج من المياة الأسنة في الحديدة.
ولا بد في سبيل الخروج من دوامة فشل استوكهولم من العمل على إيجاد أوراق الضغط المناسبة على طرفي الحرب، خصوصاً الضغط المجتمعي، من اجل الانخراط بجدية في المشاورات القادمة وهنا على المبعوث الأممي إعادة صياغة رؤيته للتجاذبات الاقليمية وتأثيراتها السلبية على المفاوضات ومساراتها المتعثرة في كل المحاولات السابقة.
وربما تكون جولة المبعوث الأممي الأخيرة مفيدة في هذا الاتجاه حيث يتوجب على غريفيت الاستفادة من ضغوط القوى الدولية الكبرى على كافة أطراف الأزمة اليمنية في الداخل والخارج.