أرشيفتقارير

السرديات المتنافسة للحرب

كيف تساهم الطريقة التي تُروى وتُفسر بها الأحداث في صياغة شكل اليمن؟ .. ‏"إن الحدث يقع ثم يتبلور معناه تدريجيا" تولستوي - الحرب والسلم

المدونة اليمنية – خاص :

في 21 سبتمر 2014 أكمل الحوثيون سيطرتهم العسكرية على العاصمة صنعاء والانتشار في المنشئات الحكومية ونصب نقاط أمنية في الشوارع والأحياء بعد ساعات من إصدار وزارة الداخلية بيانا دعت فيه على نحو غامض إلى التعاون مع “أنصار الله” في حفظ الأمن.

وباستثناء اشتباكات محدودة في الضواحي الشمالية للعاصمة وفي محيط مبنى التلفزيون الحكومي ثم المعركة القصيرة التي انتهت سريعا بالسيطرة على الفرقة الأولى مدرع معقل اللواء علي محسن الأحمر الذي استجاب حينها لتكليف مثير للشبهات من قبل الرئيس عبدريه منصور هادي بالنزول لإدارة معركة الدفاع عن القاعدة العسكرية الحكومية التي سبق أن أقيل من قيادتها؛ فإن مقاتلي الحوثي لم يواجهوا صعوبات جمة في الاستيلاء على العاصمة.
وتُعد تلك الأحداث وملابساتها ومضاعفاتها نقطة تحول مفصلية غنية بالدلالات في قصة الانهيار الكبير التي ربما بدأت أولى حلقاتها قبل ذلك بسنوات كما يعتقد كثيرون.
وعلى مدى السنوات القادمة ستبقى وقائع سيطرة الحوثيون على العاصمة، وما ترتب على ذلك، موضوعا تاريخيا إشكاليا ينقسم اليمنيون حول سرده وتفسيره وتوظيفه سياسيا كل حسب مصلحته أو موقعه الاجتماعي أو ثقافته السياسية أو انتماءه الجغرافي أو ايديولوجيته وأهواءه.
وتلعب الطريقة التي يجري من خلالها رواية فصول الإنهيار وتفاعلاته دورا كبيرا في تحديد الهوية السياسية لمختلف الأفراد والمجموعات النشطة على الساحة اليمنية.

في الواقع، ثمة سرديتان أو طريقتان رئيسيتان لتفسير ورواية وقائع سقوط العاصمة والدولة اليمنية واندلاع الحرب، لكن إحدى هاتين السرديتين تفضي الى التقسيم وتؤسس له (أعترف مسبقا أن الكيفية التي سأعرض بها السرديتين ستكشف عن تحيزي وتفضيلي لإحداهما):

*السردية الأولى تعزو ما حدث الى اخطاء هادي منذ توليه السلطة الانتقالية وتشير إلى ضروب فشله وفساده وعجزه. ويحصي أصحاب هذه السردية، وهم غالبا من حزب المؤتمر وأنصار الرئيس السابق وقطاع من الحوثيين، بالوثائق والادلة ألاعيب هادي وخياناته وتخبطه السياسي وخموله الشخصي. ويستشهدون لإثبات فرضيتهم بسياسة حياد القوات المسلحة التي تبناها هادي وأعلن عنها بوضوح وزير دفاعه في أكثر من مناسبة وحظيت بتأييد وثناء من قيادات بعض أحزاب اللقاء المشترك على رأسهم ياسين سعيد نعمان الذي كتب مقالا بعد معركة عمران يعبر من خلاله عن مباركة واستحسان لوقوف الجيش على الحياد.
وليست سياسة الحياد وحدها كافية لإلقاء اللوم على هادي ولا يمكن الإستناد إليها بمفردها لتفسير ما حدث فيما بعد. لقد تفاعلت هذه السياسة مع شبكة أخرى من العوامل والأخطاء الإنتقالية الفادحة والحماقات وأوجه القصور المختلفة على المستوى السياسي والأمني والإقتصادي، وشكلت في مجملها مناخا كريها مشؤوما ومشبعا بالكارثة، وكل ذلك كان يجري ضمن مجال إقليمي ودولي شديد التغير والإضطراب والتداخل.

وإذ يتحدث أصحاب هذه السردية عن دور هادي، فإن هذا يشمل حليفه حزب الاصلاح بمكوناته العسكرية والقبلية مقرونا بالخط السياسي لاحزاب المشترك الذي كان يلتقي في قضايا كثيرة مع جوانب من الخط السياسي للحوثيين السابق لسيطرتهم على السلطة عندما كانت تجمعهم بأحزاب المشترك رفاقية نضالية ضد حكم صالح.

*السردية الثانية المنافسة هي التي تُغفل دور هادي وتحالف الاصلاح والمشترك وتبحث عن أسباب أخرى تعتقد أنها اعمق وأهمّ رغم أنها لا تزال تتعثر في إثباتها. هذه السردية تفترض أن ما حدث كان محتما ومتوقعا بغض النظر عن دور هادي لأن المشكلة الجوهرية كامنة في طبيعة منطقة شمال الشمال القبلية الزيدية، وإذا كان هادي قد بدا ضعيفا وقليل الحيلة فانما يعود ذلك الى كون الرجل جاء الى الحكم من خارج هذه المنطقة المهيمنة على الجيش وكافة مفاصل الدولة وبالتالي فإن هذه المنطقة هي احتشدت كالبنيان المرصوص وتحركت بواسطة قوات صالح والحوثي لاستعادة الحكم الذي أفلت من يدها.

السردية الأخيرة تضرب صفحا عن كل الحقائق والمعطيات المباشرة والوقائع المثبتة وتلجأ إلى حيلة تقليدية قوامها تأويل الأحداث من منظور تاريخي وجغرافي يركز بشكل عام على البعد الجهوي والمذهبي في الصراع. أصحاب هذه السردية يعتمدون في المحاججة على ظنون وتخمينات وأفكار سيسيولوجية نمطية ونعرات وذكريات كانت متداولة على نطاق ضيق وخجول منذ سنوات سابقة لوصول هادي الى الحكم وتم استدعائها من الهامش بغية نزع الطابع السياسي عن الحدث وإلباسه مظهر آخر تبدو غايته الاخيرة إثبات ان التقسيم والتفكيك هو الحل والترياق الشافي والوحيد.
المفارقة أن الطبقة السياسية المرتبطة بهادي كانت تضمر هذه الكليشهات الشعبوية وتنوي إشهارها في الوقت المناسب لاستخدامها في التغطية على سجلها المخزي وطمس الدور الذي ساهمت به في انهيار البلد. لقد فعلت كل ما يمكن ان يؤدي الى نتيجة كهذه. وهي مغتبطة الان من ان الواقع الذي فرضه الحوثي لأنه جاء مطابقا لفكرتها الغالية عن “شمال الشمال”، او المركز المقدس الذي ترى فيه بنية اجتماعية متجانسة سياسيا ومغلقة ومطبوعة على التخلف ولديه ميول متأصلة معادية لفكرة الدولة.

بالطبع تندرج تحت السردية الأخيرة تفرعات كثيرة وروايات ثانوية انتظمت على أساسها مجموعات وحركات محلية مسلحة ترعاها وتمولها السعودية وتحالفها. لكن الخطاب الرسمي للتشكيلة الواسعة من القوى الملتزمة بالسردية الثانية يقدم تأطير نظري آخر للصراع باعتباره صراع بين طرفين أحدهما انقلابي والآخر يمثل الشرعية الدستورية.
غير أن سلوك هذه القوى في المناطق التي تم إجلاء قوات الحوثي ومعسكرات الدولة منها يتناقض مع هذا التأطير ومع دعوى الشرعية الدستورية للجمهورية اليمنية كليا. ناهيك عن أن هذا التأطير للصراع مجافي للحقيقة.
فأي شخص يتمتع بدرجة كافية من النضج المعرفي والوعي السياسي سيرفض التعريفات التي تنظر إلى الصراع في اليمن باعتباره شرعية في مقابل انقلاب.
ما يمر به اليمن أخطر وأعقد من هذا بكثير.
أنت تواجه مظاهر وتجليات انهيار الدولة الوطنية وعندما تسمي وضع الانهيار هذا بأنه انقلاب فأنت لا تفعل شيء سوى التهوين من شأن ما حدث عبر اضفاء طابع تقليدي مخفف لطيف ومألوف في عالم السياسة.
هناك جماعات مسلحة غير نظامية زحفت على المدن وتمارس بعض وظائف الدولة، فهل تحتاج لتسمية حدث كهذا بأنه انقلاب لكي تسوغ لنفسك رفض هذا الواقع والسعي لتجاوزه واستعادة النظام والاستقرار؟
لكي تفعل شيئا في مواجهة مظاهر وتعبيرات الفوضى والسقوط لست بحاجة الى استخدام دعوى شرعية مطعون في صلاحيتها بعدد لا يحصى من الحيثيات والاعتبارات أقلها أن من يمثل هذه الشرعية المزعومة كان مشاركا فاعلا وبكل الطرق في وقائع وعمليات اسقاط الدولة والتفريط في مكانتها ورمزيتها وصولا إلى تسليم عاصمتها فضلا عن سلسلة خروقات وانتهاكات جوهرية للمبادىء والقواعد المعيارية المؤسسة للدولة والناظمة للمجال السياسي الانتقالي.
جماعة مثل جماعة الحوثي نشأت منذ البداية كحركة مسلحة منشقة ومتمردة على القواعد العامة والتقاليد الدستورية المنصوص عليها، ولم تكن مندمجة في نشاطها مع ضوابط العمل السياسي. عندما تصف زحفها على العاصمة وما ترتب عليه بعد ذلك بأنه انقلاب على السلطة الشرعية فهذا سيكون بمثابة تكريم واطراء غير مستحق، علاوة على أنه لا ينسجم مع واقع الحال، وخصوصا حين تكون هذه “السلطة الشرعية” شريك أساسي في تقويض ركائزها ومصادر قوتها، وشريك فاعل في تهيئة الشروط التي لا يمكن إلا أن تغري جماعة مسلحة متوثبة غير سياسية (خطابا وأسلوب عمل) ولا مهتمة بقواعد ولا أنساق عامة ولا حسابات ولا مقتضيات الحكمة والتبصر.
بوسع أي طرف لم يشترك في انتهاك القواعد والمبادىء الدستورية ومعايير الشرعية أن يطلق على جملة ما حدث منذ 2011 بأنه انقلاب على النظام وعلى مبدأ الشرعية الدستورية.. يمكن فقط لطرف كهذا أن يحظى بالمصداقية فيما لو قرر التحرك من جهته للدفاع عن هذه القواعد والمعايير والسعي لاعادة العمل بها وبناء مستوى من الاجماع حولها.

إذا كنتَ ممن يعتقدون أن المشكلة هي “هيمنة المركز” وأن الحل يكمن في الخلاص من هذه الهيمنة، فلا يصح أن تقول متبجحا بأنك ضد الحوثي لأنه “أسقط الدولة”.
فهذه الهيمنة لم تكن لتوجد وفقا لمنطق هؤلاء إلا من خلال البنى والهياكل والأدوات الدولتية التي كانت ممتدة على كامل اليمن قبل أن يعمد هادي والإصلاح ومن ثم الحوثي والتحالف السعودي المضاد للحوثي إلى ضربها وتفكيكها.
أقصد أنه لا بد عليك أن تبحث عن سبب آخر غير “إسقاط الدولة” لتبرير مناهضتك للحوثي.
منطق الأشياء يقول أن ما فعله ويفعله الحوثي بالدولة يصب في نفس الاتجاه ويخدم نفس الغرض الذي ينشده هؤلاء التواقين إلى الانعتاق من “هيمنة المركز المقدس” كهدف أساسي وحافز يُستخدم للتعبئة والتجييش. ورغم التباس هذه الفكرة وعدم وضوحها بما يكفي في أذهان المنادين بها إلا أنهم يعتبرونها وصفة سحرية ومدخل لمعالجة جميع المشكلات.
فإذا كان الحوثي قد “أسقط الدولة” كما يقولون فأين الضير في ذلك طالما أن عمل كهذا يخدم نفس الغاية التي تقولون أنكم تناضلون في سبيل تحقيقها وهي التحرر من هيمنة صنعاء ومحيطها وشمالها، النضال الذي ترفضون وأنتم تخوضونه التوقف كثيرا عند السؤال عما سيكون عليه شكل التركيب الجديد لليمن المحصّن من الهيمنة المفترضة أو السؤال عما ان كانت عملية إعادة التركيب هذه ممكنة واقعيا من دون بعثرة اليمن إلى شظايا في ظل غياب قوة عليا ناظمة.
إضافة إلى ذلك، فما فعله الحوثي بالدولة قد يتكامل تماما من حيث النتيجة مع ما فعلته وتفعله السعودية ووكلاءها المحليين بالدولة، وغالبيتهم من أصحاب عقيدة الخلاص من هيمنة هذا “المركز” الشيطاني الذي يقولون أن البنى والأشكال الدولتية الناشئة كانت مصاغة ومصممة بما يتلائم مع مصالحه ويحقق هيمنته على اليمن.
بالتالي ومن هذا المنظور فإن اسقاط الحوثي للدولة معناه تقويض وتفكيك الاداة التي لا يمكن بدونها أن يمارس المركز المفترض هيمنته، وهذا يعني أن عليكم أن تحمدوا الحوثي على صنيعه بالقدر نفسه الذي تحمدون به السعودية سواءا بسواء.

وإضافة إلى كل القراءات والتأويلات التي تناولتها، فإن أوضاع عدن التي تحول دون استقرار هادي فيها تفضح وتفند وتسقط مزاعم من فسروا الإطاحة بهادي في صنعاء من منظور طائفي ومناطقي وجهوي من أجل توليد وتعبئة ردود فعل من نفس الطراز أو من أجل التسويغ لها بشكل مسبق.
وتعريف الصراع من هذا المنظور إذا أصبح هو السائد فإنه ينتج في النهاية واقع سياسي تحل فيه البنى والتشكيلات القائمة على أسس طائفية ومناطقية وجهوية محل البنى والروابط السياسية الحديثة والهيئات التنظيمية الاندماجية الوطنية.
أحداث عدن تدلل بشكل حاسم على سخف وتهافت تلك السرديات الإنقسامية التي تعيد تركيب واختزال أحداث سقوط صنعاء بما يجعلها تبدو -عبر حزمة تلفيقات وأوهام وأنصاف حقائق- في صورة استهداف “زيدي” لرئيس “شافعي” حينا (تصريحات توكل كرمان لقناة الجزيرة مثلا) أو جنوبي حينا آخر أو “سني”.
وهذا المنهج الذميم في قراءة الأمور يغفل تماما دور هادي الجوهري والمباشر ومعه القوى المرتبطة به في تهيئة الظروف والمقدمات -بأكثر من طريقة- والتي قادت في الأخير إلى فراره من صنعاء، وهي ذات الظروف والعوامل تقريبا التي تحول الآن دون استقراره وتقوية مركزه في عدن رغم أنه يحظى هناك برعاية تحالف عسكري دولي.
فهل “الهضبة” هي التي تمنع هادي من الإستقرار في عدن أم العصبية القبلية “الزيدية” أم أن للأمر علاقة بهيمنة المركز المقدس؟
بالنسبة للرجل الوطني التقدمي المحترم، فالحوثيين إذا كانوا غزاة فهم غزاة في عمران مثلما في تعز وإن كانوا انقلابيين فهم كذلك في صنعاء مثلما في الحديدة.. وهكذا.
أما أن تعتبر الحوثي في تعز غازيا وفي صنعاء انقلابيا وربما اعتبرته في عمران ثائرا؛ فأنت من حيث الطائفية لا تتميز في شيء عن جماعات وزعامات الإسلام السياسي بشقيه السنّي والشيعي.
وحتى لو سلّمنا ان هذه القراءات والمنظورات الطائفية والجغرافية تحمل بعض الحقيقة، إلا إن التركيز على هذا العنصر الثانوي في الصراع وإبرازه والتشديد عليه والانطلاق منه في التحليل وتوظيفه في التجييش والتحريض، هذا التركيز يفصح عن سوء طوية وانحطاط خُلقي وعدم نزاهة.

الخلاصة هي: لا أنكر أن فرضية الهيمنة قديمة ولها ما يسندها من الشواهد قبل وصول هادي للسلطة، إلا أنني أشكك في صلاحية هذه الفرضية لتفسير واقعة سقوط صنعاء، كما أشكك في قيمتها التفسيرية حين يتعلق الأمر بالمصير الذي انتهى إليه هادي وحكمه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *