
المدونة اليمنية – خاص :
الجغرافيا التي يبدو أنها تعمل الآن في صالح الحوثي من الناحية العسكرية، هي نفسها التي ستلفظه مع شعاراته، ذات يوم، بعنف وبلا رحمة. فهي حصنه الآن مثلما هي قبر لأوهامه الكبرى لاحقاً وبشكل دائم.
هناك فرق بين الشعارات، والرؤى الهذيانية، والهياج العاطفي، وبين الواقع المحسوس، واعتبارات العقل، وحقائق الجغرافيا ومنطقها، وذاكرتها، ومؤهلاتها الممكنة.
كل ما فعله الحوثي في 2014، هو أنه تقدم بمليشياته -مُستغِلاً حالة الفراغ والانقسام- لانتزاع النفوذ انطلاقاً من رقعة جغرافية من اليمن تتسم تاريخيا بسمات خاصة، طوبوغرافية واجتماعية واقتصادية ومناخية. وكان لهذه السمات اليد الطولى في جعل النافذين السابقين للحوثي ما كانوه وما انتهوا إليه.
سلطة الأمر الواقع الحوثية باتت، حالياً، تتركّز، بالتحديد، في النطاق الذي كان يتركّز فيه نفوذ الجنرال علي محسن الأحمر مثلا، وبيت الأحمر والزنداني، النفوذ الذي كان يجري داخل إطار الدولة اليمنية المركزية. وهذا الحيز المكاني يحمل خصائص تاريخية وجغرافية شبه ثابتة، هي التي تصيغ أنماط السلوك العام، وترسم الاتجاهات، وتقرر شكل النفوذ ومداه ووشائجه الهشة والمتغيرة على الدوام.
لكن يضاف عامل آخر حاسم، بالنسبة للحوثي، لم يكن متوفرا في حالة السابقين الذين صعد الحوثي على أنقاضهم (وربما سيعودون هم أيضاً على أنقاضه). فأولئك كانوا -نظرياً على الأقل- يمارسون النفوذ السياسي والاجتماعي والهيمنة تحت عناوين وخطابات الوطنية اليمنية الجامعة.
ولو سُئِلتُ عن هذا العامل، الذي قد يعجل بزوال مكاسبهم أسرع من سابقيهم، فإن بوسعي تلخيصه هكذا:
الحوثي -وخلافا للأطراف المذكورة أعلاه- حدَّدَ نفسه مذهبياً من أول طلقة، وهذا يعني أنه نَصَبَ حدّاً نارياً بين جماعته وبين غالبية أبناء بلده من معتنقي المذاهب والآراء الأخرى، الأمر الذي مهّد لانفتاح “الحدود” القانونية للدولة تبعاً للقاعدة نفسها التي بدأ بها لعبته الخطرة، أي على قاعدة التماثل المذهبي مع قوى إقليمية بذلت الحماية والتضامن خارج حدودها.
اليمن كدولة، بالمفهوم الحديث، لم تتعيَّن حدودها على أساس طائفي أو مذهبي، بل على أسس تاريخية وحضارية أقدم من المذاهب والطوائف.
من الزاوية الوطنية، الفارق يختفي كليّاً بين ذاك الذي سمح بفتح حدود بلده أمام دول خارجية مطابقة لمذهبه، وبين من أقام حدّاً مذهبيّاً تقسيميّاً داخل بلده، بل إن جريمة هذا الأخير أثقل وزنا وأكبر مقتا من جريمة الأول.
▪ ليست الشعارات ولا نبوءات العرّافين، بل الواقع اليمني، بكل خصائصه وحقائقه وقواه ومكوناته المادية، هو الذي يلعب دوراً أكيداً في تحديد الصورة الكلّية، والوجهة والمصير بالنسبة للحوثي وجماعته. ومثلما يحاول الحوثيون تطويع وصياغة المجال الذي يتحركون فيه، فإنهم بالقدر نفسه هدف وموضوع مستمر للتطويع والصياغة والتشكيل والخلخلة وتعيين النهايات.
هذا الواقع الذي وصفه البردوني في كتابه “اليمن الجمهوري” بأنه “واقع مادي”، يتناقض مع نظرية الهادي بن الحسين في الحكم، والتي تتسم “بالمثالية” حسب تعبير البردوني: “فجابهت مادية الواقع اليمني الذي كانت تحكمه عدة أنظمة: كالزيادية في تهامة والمرتبطة اسميا بالخلافة المركزية في بغداد، واليعفريين في شبام، والدعاميين في همدان، وعلي بن الفضل في مذيخرة، إلى جانب رئاسات عشائرية: كالياميين في نجران، وأشباههم في خولان”.
لن يكون لـ”نَسَب” الحوثي أية أهمية تذكر في مسألة حمايته من السقوط حينما تنضج وتنتظم جميع أسباب وعوامل هذا السقوط.
في سبتمر 1962، خرج البدر (آخر إمام زيدي) من قصره مطروداً، وقيل إنه تخفى في زي نساء.
ويذكر الصحفي البريطاني إدجار أوبالانس، في كتابه “الحرب في اليمن”، هذه الرواية: “وفي أحد الشوارع الهادئة للعاصمة تعرفت امرأة على شخصية الإمام، وآوته في بيتها، واستبدلت ملابسه الفخمة الأنيقة الواضحة بملابس جندي عادي. وفي عتمة الليل البهيم تسلق الإمام ومرافقوه جدران المدينة ميممين شطر الشمال”.
▪ ولنفترض أن الحوثي أراد أن يصنع من نفسه نسخة من حسن نصر الله، أي أن يكون زعيما لجسم سياسي وعسكري طائفي يتمتع بثقل ونفوذ في إطار الدولة، وأحيانا مهيمن عليها، فإن الواقع اليمني ما كان ليطاوعه في رغبته هذه، لأنه ببساطة ليس مُصمَّمَاً على مواصفات تصلح لاحتضان نموذج نصر الله.
ناهيك عن أن الكثير من المواد والعناصر الأولية التي راح يتشكل منها جسم جماعة الحوثي، لم تكن هي المواد ولا المؤثرات نفسها التي شكلت تجربة “حزب الله” اللبناني.
لقد استقطبت الحركة الحوثية منذ البداية، بوعي أو بدون وعي، مدخلات كثيرة من ميراث الإمامة التاريخي، واستلهمت روحها، وأدرجتها في كيانها ونسيجها ومنطقها، وهذا يعني أن المحصلة لن تكون بالضبط قطعة من “حزب الله”، ولا حتى نسخة من دولة الخميني من باب أولى، بل صورة عتيقة من الإمامة الزيدية، مطلية هذه المرة بطلاء من أساليب نماذج معاصرة تتضمن حزب الله وجماعات الإسلام السياسي.