أرشيفتقاريرسلايدر

“فن الزامل” ضحية أخرى للحوثيين

المدونة اليمنية - احمد العرامي

لم يقتصر الخراب الذي انتهجته جماعة الحوثي في اليمن، على تدمير الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بل يمتد إلى تلويث وتشويه الموروث الشفهي الشعبي، وقيمه، وأشكاله الفنية الجميلة، فمنذ نشأت الجماعة كان توظيف الموروث الشفاهي إحدى الآليات التي استندت إليها في التجييش وبث خطابها، ولقد كان الفن الشعبي المسمى “الزامل” أبرز عناصر الموروث الشفاهي التي تعرضت لهذا التشويه، حين اتخذت منه الجماعة أداة رئيسية لتمثيل خطابها الطائفي، وبث أفكارها التي تقدس العنف، وترتكز عليه، مسيئةً بذلك لواحد من أهم عناصر الموروث الشفاهي اليمني، ومن أكثرها خصوصية وفرادة.

وانكب الحوثيون على هذا الفن الشعبي “الزامل”، مستفيدين من سهولته وسلاسته، وتعدد ألحانه ووظائفه، وسهولة انتشاره في الثقافة الشفاهية الشعبية اليمنية، وقربه من ذائقة الطبقات الشعبية والبسطاء، خصوصاً في المناطق القبلية، ليستخدموه في التعبئة والتحشيد، ومخاطبة أتباعهم، وبث روح الحماس في المقاتلين. وقد بلغ اعتمادهم عليه، وكثافة حضوره في أدبيات الجماعة ومناسباتها، إلى الدرجة التي أصبح فيها –أي الزامل- عنصراً أساسياً وأداة من أدوات الخطاب وقنوات التعبير الحوثية، بل أصبح يمثل الأيقونة الرمزية الثالثة التي ترتبط بالمليشيا الحوثية وهويتها، إلى جانب كل من “الصرخة” و”الملازم”.
ونعني بالزوامل الحوثية، الأناشيد الحربية الحماسية التي ينشدها ويصدرها منشدون تابعون لجماعة الحوثي، وتمثل بالنسبة للجماعة المعادل الموضوعي للأناشيد الحماسية لحزب الله. وهذه الزوامل عبارة عن أناشيد حماسية قتالية، وتحمل مضامين سياسية طائفية، وهي مقاطع شعرية مغناة ينظمها عادة شعراء من أتباع الجماعة، وتغنى على ألحان فولكلورية غالباً، ويؤديها منشدون من الجماعة، أشهرهم “لطف القحوم” و”عيسى الليث”، ويصاحب أداء المنشد الرئيسي أداء جماعي على إيقاع الطبل الشعبي المعروف في اليمن، وتحضر في مختلف مناسبات الحوثيين، وتبث عبر وسائل إعلامهم.
وتأتي خطورة الزامل الحوثي في محاولة الجماعة إحلاله في الفضاء السمعي الفني للمجتمع، محل مختلف الفنون السمعية، إذ تحاول تعميمه على المجتمع باعتباره الشكل الفني الوحيد المعترف به لدى الجماعة التي تحرم الغناء، وبدأت منذ اقتحامها لمدينة عمران باعتقال الفنانين ومنع الغناء. وقبل ذلك، فإن الزامل في أصله الشعبي لدى القبائل اليمنية، يستخدم لأغراض عدة، في مختلف حالات المجتمع، من الحرب إلى السلم، إلى العمل، ومختلف المناسبات، ولكن جماعة الحوثي تستخدمه على أحط مستوى، وهي الوظيفة الحربية، حيث الشكل الفني الشعري يمثل محمولات دلالية طائفية وعدائية. وتشكل جزءاً لا يتجزأ من انتشار ثقافة العنف التي تغذي النزاع والصراع في اليمن.
ومنذ نشأة الجماعة وظهورها، ارتبط الزامل بها إلى الدرجة التي أصبحت فيها سمعة هذا الفن الشعبي سيئة للغاية، نظراً لارتباطه بالجماعة التي مثلت واحدة من أكبر الكوارث الاجتماعية السياسية في تاريخ اليمن المعاصر، منذ اعتدت على الدولة، واستولت على مقدراتها، وفتحت على اليمنيين جحيم حرب طويلة لا أفق واضحاً لنهايتها.
والزامل في الأساس ضرب من الأناشيد الاجتماعية الرجالية المعروفة لدى القبائل اليمنية منذ قديم الزمان، أي أنه ليس سوى فن شعبي يمني عريق، تعرض على يد الحوثيين لما لم يتعرض له أي من عناصر الموروث الشفاهي في اليمن، وربما في بلدان أخرى، من إساءة وتشويه وتجريف، إذ حولوه إلى أداة تبث الكراهية، وتمجد العنف، وتهدد السلم الاجتماعي من خلال توظيفه في تغذية الفكر الطائفي، وتمجيد أعمال الجماعة التخريبية وزعمائها، وإلهاب حماس مقاتليها.
والزامل، إذا ما تحدثنا عن خصائصه وطبيعته الفنية والاجتماعية كفن من فنون الشعر الشعبي المعروفة والمألوفة لدى القبائل اليمنية، فن شعري شعبي “يقترب في بنائه وبعض خصائصه من فن الزجل الأندلسي، ويتميز بقصره، إذ لا يتعدى بيتين شعريين على اختلاف بناه الشكلية التي قد تشبه أحياناً -وليس دائماً- نظام بيت الموشح، ويقال في المناسبات والمواقف المختلفة، ويشبه بياناً اجتماعياً من قائله الذي قد يمثل ذاته أو جماعته التي ينتمي إليها (القبيلة مثلاً)، وهو أكثر أشكال التعبير الشفاهي الشعرية تداولاً واستعمالاً بسبب حيويته وقصره وخصائصه الفنية “الشفاهية” التي تمكن الشعراء من التعبير عن موضوعات الحياة اليومية والساخنة، كما يسهل على الذاكرة الشفاهية تناقله واستحضاره، وهو في طبيعته الاجتماعية غالباً ما يصاحب مناسبات (الأعراس، العزاء، الخلافات الاجتماعية، أو المصالحات)، وفي العديد من هذه الحالات عادة ما ينشد جماعياً، ويعبر عن موقف الشاعر أو الجماعة التي ينتمي إليها الشاعر”.
ويبدو أن لهذا الفن الشعبي الفاعل، جذوره الضاربة في الثقافة الشفاهية اليمنية منذ القدم، فعلى أننا لا نعرف تاريخاً محدداً لنشأة الزامل، إلا أن ثمة إشارة قادمة من اليمن القديم ما قبل الإسلام، تدل على معرفة هذا الفن وانتشاره كتقليد شعبي وجماعي، وهذا ما يدل عليه “ما جاء ذكره في قصة ثيونانس، في أوائل القرن السادس، عندما تكلم عن الوفد الذي أرسله قيصر الروم إلى ملك حمير (اليمن)، وهو الوفد الذي رأسه شخص يدعى “يدليانوس” الذي ذكر أنه رأى الملك الحميري عندما خرج في موكبه واقفاً على عربة أو مركبة تجرها 4 أفيال، وليس على هذا الملك من الملابس إلا مئزر محوك بالذهب حول “حقويه”، وأساور ثمينة في ذراعيه، ويحمل ترساً ورمحين، وحوله رجال حاشيته، وعليهم أسلحة، وهم يغنون بإطرائه وتفخيمه، فلما وصل السفير وقدم للملك كتاب القيصر، قبل السفير نفسه، وقبل الهدايا التي حملها السفير”.
ويدل الوصف المتعلق بإنشاد مجموعة من حاشية الملك بأناشيد تطري وتفخم ملكهم، على هيئة الزامل المعروف لدى القبائل اليمنية، والذي ينشد في اللقاءات والاستقبالات والمناسبات العامة والخاصة، ما يشير إلى قدم هذا الفن الشعري الاجتماعي لدى اليمنيين، وهو الأمر الذي سوف يستمر إلى وقتنا الراهن، وفي نطاق واسع من المناطق القبلية التي مازالت تحافظ على تقاليدها العريقة ومنظومتها العرفية وثقافتها الفولكلورية.

ويؤدي الزامل لدى القبائل اليمنية وظائف عدة تختلف باختلاف المناسبات التي ينشد فيها، والظروف التي يقال فيها، إذ عادةً ما يستوعب المضامين التقليدية التي تعالجها القصيدة العربية الكلاسيكية، مثل الفخر، والهجاء، والرثاء، والحب، وغيرها من المضامين الذاتية الوجدانية، بالإضافة إلى مضامين أخرى نابعة من وظيفته الاجتماعية المرتبطة بالمناسبات، كالتهاني، والمجاملات، وحتى إصلاح ذات البين، وعادةً ما مثل الزامل وسيلةً في ذلك، بل اعتبرت بعض نصوصه بمثابة “أحكام” عرفية في خلافات بين بعض القبائل وبعضها.
ويستغل الحوثيون هذه القيمة الفنية والفاعلية المعروفة للزامل الشعبي، في الاستقطاب، وبث الحماس في مقاتليهم، من خلال نظم نصوص شعرية على غراره، يقومون بتلحينها وإنشادها وتعميمها، بما تجسد من خطاب طائفي وجهادي، يمجد السلالة، ويعبر عن مرتكزات أساسية من رؤيتها وفكرها، بما فيها من محمولات دلالية تمجد الحرب وبطولات الجماعة، وتضحيات أتباعها من أجل “السيد”، وغير ذلك من المضامين التي تنال من الخصوم، وتمجد بطولات الجماعة المزعومة.
ومن حيث المضمون أو الخطاب، فإن خطاب الزامل الحوثي يقترب من طبيعة الخطاب السياسي العام للجماعة، من حيث كونه خطاباً مراوغاً وآنياً، وإن كان يحمل في طياته دلالات البعد الطائفي والهوية الحربية للجماعة أساساً، بيد أن مراوغته تتمثل في اختلاف الخطاب من مرحلةٍ إلى أخرى، بحسب مقتضيات الحال، فقبل اقتحام المدن اليمنية، كان الحوثيون يتغنون بالسلام، بينما في الفترة التي كانوا يمهدون فيها لدخول صنعاء، اتسمت زواملهم بانتقاد حكومة الوفاق الوطني، وانتقاد الفساد، مثل زامل “شرق، شرق، شرق، ثورة على كل السرق”، أما في الفترة الأخيرة فموجهة معظمها ضد التحالف العربي والمقاومة. ومؤخراً توجهت الأنظار حول معركة الحديدة، والدفاع عنها… وهكذا.
ويرتكب الحوثيون بتوظيفهم الزامل في أدبيات الجماعة، جريمةً بحق واحد من أهم عناصر الثقافة الشعبية في اليمن خصوصيةً وجمالاً، وعراقة، ويأتي تشويههم لهذا الفن، بدءاً من إفقاده وظائفه الاجتماعية الجميلة والإنسانية، فإذا كان الزامل لدى القبائل اليمنية يوظف في إصلاح ذات البين، والتعبير عن المكنونات العاطفية، وحل الخلافات بين القبائل، وفي التعبير عن المشاعر والمكنونات الاجتماعية من خلال حضوره في مختلف المناسبات الاجتماعية لدى القبائل اليمنية، على تعدد هذه المناسبات وطبيعتها، فإنه لدى جماعة الحوثي يختزل داخل الوظيفة الحربية التي تمتلئ بقيم العنف وتمجيد الحرب.
وبقدر ما يمكن أن يكون الزامل شكلاً فنياً شعبياً، عادةً ما يتضمن قيماً إيجابية، ويسهم بدوره في الصلح بين القبائل، وفي حل الخلافات، وحتى إيقاف الحروب، والإسهام في كبح جماح العنف، في مجتمع قبلي كثيراً ما كان للفن بمختلف أشكاله دوره في تسيير الحياة والحفاظ على تماسك الجماعة، فإن الزامل بنسخته الحوثية المشوهة، يقتصر على الوظيفة التعبوية، بالإضافة إلى تجسيده للقيم الطائفية التي توسع الشرخ الاجتماعي، وتكرس السلالية، وتمجد زعيم الجماعة وتؤلهه، وتسخر من الهوية اليمنية، وتسيء لها.
ومن خلال آليات مثل استخدام الزامل الشعبي بهذه الطريقة، فإن جماعة الحوثي ذات الهوية الشيعية والعنصرية والدعم الإيراني، والتي تفتقر للهوية الوطنية، تحاول تأصيل نفسها داخل المجتمع، مستعيرة عناصر الموروث الشفاهي والثقافة اليمنية الأصيلة، مثل ذلك استخدام قوانين وأعراف المجتمع اليمني القبلي، والاعتماد على الزي الشعبي اليمني، كزي أساسي، وتجيير عناصر أخرى من الثقافة الشعبية مثل “المدرهة”، وتحميلها مضامين ومحمولات دلالية سياسية تخدم الجماعة في صراعها من أجل السيطرة على المجتمع اليمني، والاستبداد به، والتسلط عليه. غير أن هذه الجماعة غير الوطنية تظل من أكبر الكوارث التي عصفت بالمجتمع اليمني، وكرست العنف فيه، وأساءت إلى هويته وعناصر ثقافته.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *